إمارة الشعر في عالم الإنتشار اللبناني

في العاشر من شهر شباط 2001، دعت رابطة الجمعيّات اللبنانيّة في السانت جورج لحفل تكريمي للشاعر شربل بعيني، تكلّم فيه كل من: رئيس الرابطة الحاج خليل حراجلي، الدكتور علي بزّي، الأديبة مي طبّاع، الأستاذ جوزيف خوري، الشاعر شوقي مسلماني، الشاعر فؤادي شريدي، السيّد الياس أبي خطّار، السيّدة ليلى بعيني، وكاتب هذه السطور. كما ألقى الدكتور بزّي كلمتيْ الدكتورين جوزيف حايك من أميركا، وعصام حدّاد من لبنان.
خبير الكومبيوتر المعروف طوني الشيخ كتب عن التكريم مرّتين، قبل أن يبدأ، وبعد أن انتهى، ومن كلمة نشرها في البيرق، العدد 1856، الصادر في 6 شباط 2001، أختار:
"سمعت أحدهم يقول، وهو يقرأ نص الدعوة المنشور في جريدة البيرق الغرّاء: لقد انتظرناهم من الشمال فجاءونا من الجنوب. كون الشاعر شربل بعيني من شمال لبنان، ورابطة الجمعيّات اللبنانيّة في السانت جورج من جنوبه. وهذا ما يدلّ على بعد تفكير المسؤولين عن هذه الجمعيّات، وأن النجاح اللبناني هو نجاحهم، وأن حدود وطنهم الصغير لا تستوعب طموحَهم، فراحوا يتلاحمون في الإغتراب، ليكوّنوا الوطن اللبناني الأكبر، الذي لا تغيب عنه شمس الحريّة والإنسانية والحياة الأجمل.
لقد دخلت ربطة الجمعيات اللبنانية في السانت جورج ـ أستراليا، مع المجلس القاري للجامعة اللبنانيّة الثقافيّة في العالـم ـ قارّة أميركا الشماليّة، الذي يترأسه الأديب جوزيف حايك، في اتحاد لبناني مهجري راقٍ، غايته الأولى والأخيرة تكريم المبدعين من مغتربينا، أيّاً كانوا، ومن أيّ منطقة لبنانيّة جاءوا.. ليثبتوا للعالـم أن الوطن الذي أعطى جبران والصبّاح ودبغي، بإمكانه أن يعطي أكثر. وأن الحرب اللئيمة التي اجتاحته لـم تكن سوى زوبعة في فنجانه. فمحبّة واندفاع أبنائه من أجل الحق كفيلان بأن يبنيا وطناً أكثر اتحاداً، وأقوى ديموقراطيّة.
عظمة شربل بعيني لـم تكن في أدبه، ولا في رسالته التربويّة، بل كانت في إنسانيته وتواضعه ومحبّته واندفاعه من أجل مساعدة أصدقائه. فلقد ربطتني به صداقة طويلة، لـم تتمكن السنون، ولا مزاجيّة الغربة، من التغلّب عليها. كانت صداقتنا واضحة لا دجل فيها. وشربل بعيني يكرّه الدجّالين والوصوليين، الذين لا هم عندهم، سوى استغلال صداقة الطيّبين من الناس، وتجييرها لمصالحهم.
هو هكذا، طفولي المزاج، مرح إلى أبعد حدود المرح، يتكلّم بصوت عالٍ كأنه الرعد، فإمّا أن تحبه كما خلقه اللـه، وإمّا أن تبتعد عنه، لأنه لن يبدّل سلوكه إكراماً لك، أو لغيرك. وصدّقني أنك ستحبّه، وستفتخر بصداقته، كما أفتخر أنا وأكثر.. شرط أن تعمل بنصيحتي!!.
العاشر من شهر شباط، هو يوم الجنوب، يوم الشمال، يوم لبنان الـ 10452 كلم2، يوم المجلس القاري، يوم شربل بعيني، ويومنا جميعاً.. لذلك أدعوكم للمشاركة بهذا الاحتفال التاريخي.. وأعدكم بأن كل ما سيحصل فيه سيكون رائعاً، إذ لا أحد مثل أبناء الجنوب اللبناني يعرف كيف يستقبل ضيوفه.. ولا أحد مثل أبناء الجالية في أستراليا يعرف كيف يكرّم مبدعيه. فتعالوا.. تعالوا.. ولسان حالكم يردد: المكان ضيّق ولكن القلوب واسعة.
في العاشر من شباط ولد شربل بعيني، وفي العاشر من شباط يكرّم شربل بعيني.. فهل من ذكاء يضاهي ذكاء أهل الجنوب؟!.. لقد اصطادوا عصفورين بحجر واحد.. وقالوا لنا: نحن لا نحفظ أشعار شربل بعيني فحسب، بل نعرف تاريخ ميلاده أيضاً.. ونعرف كيف نقول شكراً، ومتى نقول شكراً، للمبدعين من أبنائنا، ولا فرق عندنا بين شمالي وجنوبي، بين ابن ساحل وابن جبل، بين مسيحي ومسلم، فكلنا أبناء اللـه، وكلنا أبناء لبنان.. وكلنا، وهذا هو الأهم، أبناء غربة قسريّة فرضت علينا، فحوّلناها جنّة بمحبتنا.
يا رابطة الجمعيّات اللبنانية في السانت جورج.. شكراً.
يا خطباء الاحتفال.. شكراً.
ويا أيّها القادمون إلى السانت جورج لحضور الاحتفال ليلة السبت القادم.. شكراً وألف شكر. وإلى اللقاء في العاشر من شباط في منطقة أرنكليف".
وما أن انتهى الإحتفال حتى نشر طوني تغطية صحفيّة رائعة في جريدة البيرق، العدد 1863، الصادر في 22 شباط 2001، أختار منها:
"إلتفاتة الجنوب اللبناني للأدب المهجري كانت رائعة. فلقد لبّى المئات من شخصيّات الجالية ومثقّفيها دعوة رابطة الجمعيّات اللبنانيّة في السانت جورج لتكريم الشاعر شربل بعيني لنيله لقب (أمير الأدباء اللبنانيين في عالـم الإنتشار لعام 2000) من قبل المجلس القاري للجامعة اللبنانيّة الثقافيّة في العالـم ـ قارّة أميركا الشماليّة.
وكما كانت الأمطار تنهمر بغزارة، هكذا كان الناس يتوافدون إلى قاعة الرابطة في أرنكليف، غير عابئين برداءة الطقس، همّهم الأول والأخير المشاركة بتكريم من كرّم الحرف الإغترابي، وبذر المحبّة والإنسانيّة بين المغتربين.
باختصار شديد، وباعتراف كل من حضره، كان تكريم الشاعر شربل بعيني أكثر من رائع، منحته فيه رابطة الجمعيّات اللبنانيّة لوحة تذكاريّة تخلّد الذكرى. كما منح أبناء مجدليا والدكتور عصام حداد رئيس معهد الأبجديّة في جبيل جائزة شربل بعيني لعام 2001، لكل من رابطة الجمعيّات اللبنانيّة في السانت جورج، ولرئيس المجلس الإقليمي للجامعة اللبنانيّة الثقافيّة في العالـم الدكتور جوزيف حايك.
وفي ختام السهرة أطفأ الشاعر شربل بعيني شمعته الخمسين، وسط هتاف الناس وغنائهم له (سنة حلوة يا أمير)، كما قطع قالب كاتو كُتب عليه: (مبروك عيد ميلادك الخمسين أيها الأمير شربل). والجدير بالذكر أن رابطة الجمعيّات اللبنانية في السانت جورج قد خطّطت لتكريم شربل بعيني في يوم عيد ميلاده، فضربت عصفورين ذهبيين بحجر واحد.. وأقامت لذلك حفل كوكتيل عامراً في نهاية السهرة".
وعلى غلاف عددها الرابع عشر، الصادر في شهر آذار 2001، نشرت مجلّة أميرة هذا العنوان الصارخ: "الجنوب يكرّم أمير الأدب في الإنتشار"، وألحقته في الداخل بتغطية تاريخيّة معبّرة، إليكم بعض ما جاء فيها:
"لـم يحدث بتاريخ الإغتراب أن كُرّم شاعر بيوم عيد ميلاده الذهبي، كما حصل للشاعر شربل بعيني في العاشر من شهر شباط الماضي، فلقد دعت رابطة الجمعيّات اللبنانيّة في السانت جورج إلى مهرجان شعبي كبير احتفاء بفوز إبن مجدليا البار بلقب (أمير الأدباء اللبنانيين في عالـم الإنتشار لعام 2000) من قبل المجلس القاري للجامعة اللبنانيّة الثقافيّة في العالـم، قارة أميركا الشماليّة، الذي يرأسه الدكتور جوزيف حايك. ورغم تساقط المطر بغزارة، ورغم ضجيج أمّنا الطبيعة ببرقها ورعدها، فلقد اكتظّت قاعة الرابطة بمئات المدعوّين من الشخصيّات الدينيّة والسياسيّة والإجتماعيّة والإعلاميّة والأدبيّة وغيرها.
توقيت التكريم كان ضربة معلّم، إذ أنه أقيم في اليوم الذي ولد فيه شربل بعيني. قالب الكاتو (طوله متر)، الذي قطعه الشاعر كان ضربة معلّم أيضاً، فلقد كتب عليه: (مبروك عيد ميلادك الخمسين أيها الأمير شربل). اللوحة التذكاريّة التي قدّمها رئيس الرابطة الحاج خليل حراجلي للشاعر بعيني، كانت مذهّبة كقلوب أبناء الجنوب البطل، وكقلب أميرنا الشاعر. إلتفاتة مجدليّا والدكتور عصام حدّاد ومعهد أبجديّته جاءت في محلّها، فلقد منحوا رابطة الجمعيّات في السانت جورج، والرئيس القاري للجامعة اللبنانية الثقافيّة في العالـم الدكتور جوزيف حايك جائزة شربل بعيني لعام 2001، عن الخدمات الإجتماعيّة والثقافيّة".
وفي هذه المناسبة اقترح الدكتور عصام حداد على الدولة اللبنانية أن تمنح شربل (وسام الإغتراب اللبناني)، فقال:
"وَبِالْمُناسبَةِ، أَقْتَرِحُ على الدَّوْلَةِ أنْ تَخْتَرِعَ وِسَاماً تُسَمِّيهِ (وِسَامَ الإِغْتِرابِ اللبناني)، عَلَّها تُشَجِّعُ هَذا وَذاك لِيَحْمِلوا في أجسامِهِم دَماً نَقِياً للبنان، ويكونَ شَرْبِل أَوَّلَ حاملي هَذا الوِسَام".
ومن بين الكلمات الكثيرة التي ألقيت في الحفل أختار كلمة الدكتور جوزيف حايك، لتدركوا مدى الدعـم المعنوي والأدبي الذي تلقّاه شربل من المجلس القاري:
"حضرات رئيس وأعضاء رابطة الجمعيّات اللبنانيّة في السانت جورج ـ أستراليا.
أيّها الأخوة الكرام.. يا خير المواطنين:
إن حفل تكريم الشاعر شربل بعيني، أمير الأدباء اللبنانيين في عالـم الإنتشار، إن دلّ على شيء، فإنّما يدلّ على أنّكم خيرُ رسلٍ لموطن الأرز تحت سماء اللـه الواسعة، وبأن تكريمكم للأدباء إنّما يجسّد مقوّماتكم اللبنانيّة الشّامخة. إذ أنّ إكباركم وإجلالكم للأدب، هو المرآة التي تعكس حقيقة من أنتم، حيث لا يكرّم الأدب سوى الأدباء، وأصحاب المستويات الرفيعة والأخلاق والمكرمات!
لَكَم يؤسفني أنّ ظروفي في الوقت الحاضر لا تسمح لي بالسفر إلى ربوعكم، للمشاركة بتكريم أديب لبنان الأكبر، الأستاذ شربل بعيني، مؤكّداً لكم، أيّها الأخوة الكرام، أنّني في الساعة السابعة من مساء السبت في 10 شباط، سأكون معكم بكل قلبي وشعوري وإحساسي. كيف لا، "وأميرنا" قد فاق وتفوّق بمواهبه على 41 مرشّحاً لإمارة الأدب من مختلف قارّات الدّنيا، وكلّهم من أسياد القلم والكلمة، ومن خيرة الأدباء اللبنانيين، ومن رسل أبجديّة أجدادنا الفينيقيين.
إنّ المجلس التنفيذي في القارّة الأميركيّة للجامعة اللبنانيّة الثقافيّة في العالـم، الذي لي شرف رئاسته، يلتقي معي اليوم، ليس فقط في تكريم أديبنا الأكبر الأستاذ شربل بعيني، بل وبتكريم كلٍّ منكم، لأنّكم بهذه البادرة الطيّبة، إنّما ترتفعون بلبناننا الغالي إلى أعالي السّموات.
لكم جميعاً، ولأميرنا الأكبر، الأستاذ شربل بعيني محبّتي وتقديري واحترامي".
ولـم يكتفِ المجلس القاري بهذا القدر من الدعـم المعنوي والأدبي، بل أسدل الستارة كليّاً على عملية اختيار أمير أدبي كل عام في عالـم الإنتشار، وتوّج الشاعر شربل بعيني في الرابع والعشرين من شهر تشرين الثاني عام 2001، أميراً مدى الحياة. وإليكم ما جاء في الحيثيات:
"حيث أن الأستاذ شربل بعيني، كان ويبقى، سيّد المنابر، يدغدغ بأشعاره أعماق النفس، ويعالج ما تعاني الإنسانيّة من شدائد ومتاعب وملمّات..
وحيث أن شربل بعيني، العبقري الملهم، كان ولأكثر من ثلاثة عقود من زمن الخير والعطاء، قد كرّس حياته لعذوبة الشعر، ولجأ إلى سكون النفس، يعبّ من خيال فيه إبداع، ومن غذاء ملحمي في الروح، ومن شاعريّة فيّاضة لا زخرف فيها ولا ميوعة..
وحيث أن الأستاذ شربل بعيني، بكل إعجاب وإكبار وإجلال، تغنّى به الشعراء والمعجبون، وكتب الأدباء والمفكّرون، وقرّظ المثقّفون والصحفيّون، وقلّدته الحكومة اللبنانيّة، وعدد من الدول الحرّة، أكثر من 15 ميداليّة من الميداليّات المذهبّة..
وحيث أن سيّد الشعراء والأدباء، الأستاذ شربل بعيني، قد ضاقت بطاقاته أرض وطنه في لبنان، فاغترب إلى أستراليا في العام 1971، وتوسّع في أغاني الشعر الكلاسيكي، يسلخ الكلمة حارّة من أعماقه، متميّزاً بولاء قومي وحنين مهجري، وأغنى المجتمعات بأكثر من 30 كتاباً من أشعاره الرائعة، ومن أدبه الرفيع..
وحيث أن الأستاذ بعيني، في أسلوبه عذوبة نسيمات الصباح في لبنان، وفي تسلسله عمق وتفكير ووحدة بناء، وأغانيه جداول في نعومة أيّار، وموسيقاه عذوبة الصيف في شهر تموز..
فلهذه المقوّمات السحريّة، شعراً أدباً وثقافة، كان لنا الفخر في المجلس القاري للجامعة اللبنانية الثقافيّة في العالـم أن ننتخب من بين 67 مرشّحاً من خيرة الشعراء اللبنانيين في العالـم: الأستاذ شربل بعيني أمير الشعراء اللبنانيين في عالـم الإنتشار مدى الحياة".
للـه درّك يا ابن الحايك، يا حامل وسام الأرز الوطني برتبة فارس، فلقد أدركت، بحسّك الأدبي المرهف، كيف تختار، وكيف تكرّم، وكيف تتمسّك أكثر فأكثر، رغم زوبعة الفنجان، بمن كرّمت. هذه هي الرجولة التي بتنا نفتقدها في زمننا التعيس هذا. وهذه هي الأخلاق السامية التي لا تعلوها أخلاق. فلك وللمجلس القاري الذي ترأس أهدي كل كلمة كتبتها في هذه الحلقات، فلولاكم لما كانت.. ولولاكم لما أشرقت على صفحات غربتي.
أخيراً، وفي نهاية رحلتي مع أجمل ما قيل بأدب شربل بعيني، أحبّ أن أشكر جريدة البيرق الغرّاء على نشر دراستي هذه بإتقان ملفت ومبتكر، إن كان من ناحية الإخراج الفني والتبويب، أو من ناحية المراجعة والتنقيح.. فلقد أثبت العاملون بها أنهم أصحاب ذوق، ومتقنو عمل، وأهل قلـم.. فألف شكر لكل واحد منهم، أناثاً وذكوراً، دون استثناء.
أشكر، أيضاً، كل الذين اتصلوا بي، أو كتبوا إليّ لتشجيعي على مواصلة رحلتي مع حلقات تاريخيّة، اعتبروها رائعة، خاصّة تلك الأقلام النابضة بالحبّ، التي راجع أصحابها الحلقات قبل نشرها. وإن أنسى لا أنسى قرّاء جريدة البيرق الأحبّاء، الذين أتعبتهم بكتاباتي على مدار سنة كاملة. حماهم اللـه في غربتهم، وسدّد خطاهم نحو الأفضل.
أما شكري الأكبر فهو لرفيق غربتي الأمير شربل بعيني، على استضافته لي ساعة أشاء، وعلى فتح قلبيه قبل بيته لإقامتي شبه الدائمة عنده، ووضع كل ما أرغب في تصرّفي، خاصّة ذلك الأرشيف الرائع الغني.
كما أحب أن أعترف أنني لـم أتطرّق إلى الأقلام المهجريّة في أستراليا التي كتبت عن شربل، إلاّ عن طريق الإستشهادات فقط، نظراً لكثرة المقالات والقصائد التي كُتبت عنه، والتي تعد بالمئات، آملاً أن أتمكن بالمستقبل القريب من دراستها على حدة، أو أن يتمكن غيري من الدارسين من تسليط الضوء عليها، نظراً لقيمتها الأدبيّة النادرة.
قد تنتهي رحلتي مع أجمل ما قيل بأدب شربل بعيني عند هذا الحدّ، ولكن محبّتي لرفيق غربتي ستظلّ تنبض في صدري، كقلبي تماماً، إلى أن تنطفىء شموع استودعني إياه اللـه.
**