شربل بعيني بأقلامهم

معظم الكتب التي كتبت عن شربل بعيني، نَهِلَتْ من منبع واحد، ألا وهو سلسلة شربل بعيني بأقلامهم التي جمعها الاستاذ كلارك بعيني، ونشر منها سبعة أجزاء.. توزّعت على الأعوام التالية: الجزء الأول 1986، الجزء الثاني 1987، الجزء الثالث 1988، الجزء الرابع 1989، الجزء الخامس 1989، الجزء السادس 1990، الجزء السابع 1990.
وكم كنت أتمنى أن يواصل كلارك إصدار تلك السلسلة، لأن المقالات التي كتبت عن شربل قد توصلها إلى عشرين جزءاً أو أكثر. وهذا ما لمسته وأنا أتصفح أرشيف شربل الغني بمئات المقالات والقصائد التي قيلت عنه، ولـم يحتضنها غلاف كتاب بعد.
سلسلة شربل بعيني بأقلامهم تحتوي على 1320 صفحة من المقالات والقصائد التي قيلت بأدب شربل بعيني، والملفت للنظر أنها تحتوي أيضاً على مقالات جميع الذين تهجّموا على شربل دون أن يحذف منها حرف واحد. من هنا جاءت عظمة هذه السلسلة. أي أن التاريخ لا يزوّر، فالأسود أسود والأبيض أبيض، وما قيل يجب نقله بأمانة.. وعلى التاريخ أن يحكم له أم عليه. وقد انتبه الاستاذ فؤاد الحاج لذلك، فكتب في عدد النهار الصادر في 14 أيلول 1989، ما يلي:
"من هنا يحق لي أن أقول بأن كلارك بعيني الذي أخذ على نفسه عهداً بمتابعة الطريق، لهو جدير بأن نقدّم له تحيّة الإعجاب والتقدير، لما يقوم به من جهد في سبيل الحفاظ على كل ما يقال بشاعر الغربة الطويلة شربل بعيني، أو يكتب عنه من مدح أو نقد".
من السلسلة أختار ما كتبه كلارك في مقدّمة الجزء الأول:
"عرف شربل السخاء منذ نعومة أظافره، فلقد كان وما زال سخيّاً مع جميع رفاقه، لدرجة أنه كان يطعمهم زاده في المدرسة، ويتطلّع إليهم وهم يأكلونه والبسمة تعلو شفتيه.
وأذكر، مرة، كيف أتاه أحد الأصدقاء طالباً مساعدته بكتابة أحد المواضيع الإنشائيّة، ونظراً لقلّة الوقت المحدد، اضطر شربل إلى إعطائه الموضوع الذي أعدّه لنفسه، فحاز الطالب على علامة متفوّقة، وحاز شربل على تأنيب المعلّم.
وقلائل هم الذين يعرفون مدى عشق شربل للنقد والنقّاد، شرط أن يكون نقدهم هادفاً وبنّاء، وينبع من إخلاص الناقد لمسيرة الأديب، ويساهم مساهمة فعّالة في نموّه وتطوره وإغناء أدبه".
عام 1988، أطل على أدبنا المهجري في أستراليا، وللمرّة الأولى، كتاب الأديب السوري الكبير محمد زهير الباشا شربل بعيني ملاّح يبحث عن اللـه، وقد تكلّمت عنه سابقاً، ومنه أختار:
"إذا كان "دانتي" قد سجّل رحلته في سبعة أيّام، أمضاها في عوالمه الثلاثة: الجحيم والمطهر والجنّة.. فكانت الكوميديا الإلهيّة.
وشربل ما زال يسجّل رحلته كل يوم، يمضيها في أرض الغربة. لبنان جحيم مخيف، الغربة هي المطهر، والعودة هي الجنّة.
يقود تلك الرحلة "فرجيل" شاعر اللاتين: رمز العقل. ورحلة شربل يتفجّر خلالها شعره: رمز العقل والإنطلاق.
مع دانتي، بياترس رمز اللاهوت. ومع شربل، أللـه رمز الخير.
مع دانتي، القديس برنار رمز التأمل. ومع شربل، الحب رمز الحلم والموعد.
في عالـم المطهر، تتراءى لدانتي الأحلام. وشربل، في أرض سيدني، تتمازج الوقائع، ومن أرض الأرز إلى جزيرة أستراليا".
وفي نفس السنة، سجّل رئيس رابطة إحياء التراث العربي في أستراليا الاستاذ كامل المر رحلته الأدبيّة مع صديقه شربل، في كتاب أطلق عليه إسم مشوار مع شربل بعيني. وها هو في مقدّمة الكتاب يخبرنا كيف راودته فكرة إصداره:
"وفيما كنت أراجع تلك المساهمات المتواضعة التي قمت بها، ولا سيما المشاركة بندوة حول نتاج الشاعر شربل بعيني، رأيت أنه بالامكان تطويرها لتتحول إلى دراسة شاملة لنتاج هذا الشاعر، علّها تحقّق غايتين في آن معاً.
الغاية الاولى: أن تؤدي واجباً نحو واحد من أهم وأجرأ شعراء العربيّة في وقتنا الراهن، ليس في المغترب فحسب، بل على نطاق العالـم العربي أيضاً. وعلّها تساعد أيضاً في تسديد خطاه على درب الآلام الطويلة، فيتحفنا بنتاج في العاميّة والفصحى، يكون ذا أثر فعّال في تغيير الواقع المؤلـم، الذي تعيشه الأمة العربيّة قاطبة، بشطريها المقيم والمغترب، وفيم الغرابة، أو ليس الشعراء والأدباء مهندسي المجتمع؟"..
وأعترف هنا بما اعترف لي به شربل، بأنه لـم ينشر قصيدة من قصائده، إلاّ بعد أن قرأها، وراجعها، وانتقدها كامل المر والمرحوم نعيم خوري.. هذا إذا لـم يعرضها عليّ أيضاً، وعلى وجوزاف بو ملحم وعصمت الأيّوبي.. أو يرسلها للدكتور عصام حدّاد في لبنان. وكان دائماً يردّد:
ـ أفضل أن تُنتقد قصيدتي قبل نشرها.. فأنا لست إلهاً، وأدبي ليس منزلاً.
ولولا مراجعاته الكثيرة بشأن قصائده لـم يتمكن في العام 1987 من أن يهز المربد الشعري في العراق.
من مشوار كامل مع شربل أختار:
"الشاعر شربل بعيني طاقة لا تهدأ. الصحف العربيّة الصادرة في أوستراليا تلاحقه لتقطف من ثـمار نتاجه غذاء خالصاً تقدّمه لقرائها. وكلّما تراكمت هذه المقطوعات نسّقها وصنّفها وأصدرها في مؤلّف ، بالفصحى أو بالعاميّة. آخر هذه المؤلفات وليس الأخير بالطبع، فشربل ما زال في أوج عطائه، كان ديوان أللـه ونقطة زيت.
في هذا الديوان، يتناول الشاعر بأسلوب شعره العامي المبتكر، الأساطير والأقاويل والخزعبلات التي تزخر بها الطقوس الدينية والمذهبيّة على اختلافها. هدفه في ذلك تحرير الانسان من المفاهيم التي ولّدتها تلك الأساطير الخزعبلات التي استعبدت الانسان، وعطّلت تفكيره، وأجازت له، على مدى العصور والازمان، أن يرتكب الجرائم باسمها، وفي سبيل الدفاع عنها.
وشربل، في ديوانه أللـه ونقطة زيت، كما في ديوانه كيف أينعت السنابل؟ أشد جرأة، وأكثر وضوحاً، وأعمق فكراً، وأكثر شمولاً.
يبدأ الديوان بثلاثة أسطر بخط يده تقول: "لقد سخّرت مالي في خدمة حرفي، وجنّدت حرفي في خدمة الانسانية، فساعدني يا رب كي أمتلك الحقيقة".
أرى البعيني قد عمل بنصيحة الريحاني، حيث أوصى الشاعر ـ كل شاعر ـ أن: "وفّر قرشك لطبع ديوانك". فقروش شربل توظّف لطبع دواوينه، وفي كثير من الأحيان لمساعدة الآخرين على نشر نتاجهم، وهذا في عرفي قمّة الأخلاق الأدبيّة، وإدراك واعٍ لمسؤوليّة الكلمة الواعية المسؤولة".
عام 1991، نشر شربل بعيني ديوانه العالمي مناجاة علي، فأعجبت بالديوان الممثلة الأديبة نجوى عاصي، وكتبت عنه دراسة رائعة نشرتها في جريدة البيرق، ومن ثـم جمعتها في كتاب بعنوان الوهج الإنساني في مناجاة شربل بعيني، صدر عام 1993. وقد أظهر الكتاب طول باع نجوى في عمليّة النقد والتحليل الأكاديمي الراقي..
تطرّقت في كتابها إلى سيرة المناجى وأدبه وفلسفته، وغاصت في كتابات إمام العباقرة وعباقرة الإمام، وشرحت الإنسانيّة في شعر شربل بعيني، كما ألقت الضوء على طفولة شربل في أرض "مجدليّا" ورحلته مع الحياة، وأفهمتنا أن الشعر رسالة، إلى أن تصل إلى الموضوع الأساسي مناجاة شربل بعيني للإمام علي، وتهدينا بعض المزامير المترجمة إلى الإنكليزية والفرنسية والإسبانيّة.
وها هو الأديب الكبير محمد زهير الباشا يوجه شكره لنجوى في رسالة أرسلها لشربل بتاريخ 15/10/1993، فيقول:
"وأشكر نجوى عاصي على كتابها حول مناجاة علي، فإن إسهامها بما قدّمته من نتاج، وما قدّمته من معلومات تاريخيّة وحقائق إنسانيّة في حياة الخليفة علي بن أبي طالب كرّم اللـه وجهه، ما يشير إلى مكانته في قلوب عارفيه".
من كتاب نجوى أختار:
"من حسن الحظ أن شربل ابتعد عن الروتين الشعري السائد، فقد عرف كيف يجعل الكلمة العاميّة مطواعة ومتناغمة، رقيقة حيناً، وعنيفة أحياناً أخرى، ولقد أحسست وأنا أسافر عبر مناجاته أن الكلمة تأتيه وكأنها قادمة إلى احتفال، لأنه يعرف في أي مقام يوظّفها، بعد أن يخضعها بكثير من الذكاء لتصوراته، وكأن في عمله تلقائية مدهشة، تتخطّى القواعد الجامدة، لتجعل الصورة تتوضّح، مع تناغم شكل التعبير في أفق الشاعر من جهة، والمضمون من جهة أخرى".
وفي نفس العام، 1993، أصدر الاستاذ أحمد حمّود كتابه شربل بعيني في مناجاة علي بن أبي طالب، وفيه يحلل عمق التلاحم بين الاديان، وكيف أن شربل المسيحي ينظر إلى الإمام علي نظرة مسيحيّة صرفة، فيناديه "بقديس القديسين" ويناجيه "بالمزامير". وقد وزّع الكتاب مجاناً في الإحتفال التكريمي الذي أقيم لشربل احتفاء بصدور مناجاته. ومنه أنتقي الآتي:
"للّـه وللحق أقول: إن شاعراً كشربل بعيني يلقّب بأمير التباشير بلا منازع في المهجر والوطن. وفي هذا الظرف بالذات، حيث تبث أحرف كلماته الأنغام الصادقة، فتنفذ إلى أعماق كل ذوّاقة من البشر. وقد كان لقريحته هدف سامٍ هو السير بالإنسان صعداً، هداية اعتقدها شربل حقاً سماوياً بلا منازع، بتعلّقه في حب علي، فانسكبت روحه في إطار هذا الحب، على رغم ما يتعثّر به هذا الإنسان من نقد في طريق العذاب، في حين عجقت روحه في حب إبن أبي طالب، وفي حبّ الناس.
كلماته تفيض رقّة وألماً معاً، ذلك أن أعمق زفرات القلب البشري وجدت لها أنغاماً على شفتيه، وعلى أوتار قيثارته، فسميّ بحق صنّاجة زجل العرب المعذّب، في الوطن الكبير والمهاجر. وسيتناول الناس أشعاره، ويترنمون بألحانها المختلفة، وخصوصاً هذه المناجاة المزاميرية، التي سكب شربل كلماتها من روحه، بأحدث قالب زجلي.. وسيوالي الذوّاقون الترنّم بأشعاره، إلى ما شاء اللـه، دون أن تفقد شيئاً من روعتها".
أما الأديبة مي طبّاع، فقد أعجبتها القصائد العديدة التي قيلت بشربل، فاحتضنتها بحنانها الأنثوي، وعطّرتها بعبير مداد أزهارها، وجمعتها، عام 1994، في كتاب أسمته شربل بعيني قصيدة غنّتها القصائد.
وقد كتبت عن الدراسة مقالات عديدة في الوطن والمهجر، وكنت واحداً من أولئك الذين كتبوا عنها، وها أنا أختار مقتطفات من مقال كتبه الأديب السوري الكبير نعمان حرب حول الدراسة، ونشره في مجلّة الثقافة السوريّة عام 1995:
"إن هذه الدراسة المكثّفة التي بلغت مائتين وخمسين صفحة من الحجم الكبير، قد جمعت بين أسطرها وصفحاتها، سبعاً وسبعين صفحة، كمقدمة للمؤلفة حول كافة الجوانب المضيئة من شعر شربل بعيني، ثـم أتبعتها بقصائد لعدد من شعراء المهجر الأسترالي، خلّد كل منهم الشاعر بعيني برؤيته، ومن وجهة نظره في إبداعه وعطائه".
كما أختار مقتطفات من مقال كتبه الأستاذ أنور حرب في جريدة التلغراف الصادرة في 20/6/1994:
"أهو شاعر ينظم قصيدة أم قصيدة غنّتها القصائد؟
عرفنا شربل بعيني شاعراً وطنيّاً عاطفيّاً وجدانيّاً غزير العطاء والتأليف والإصدار، كما عرفناه شاعراً يبحث في عطاءاته أدباء ومفكّرون.
وليست مي طبّاع الأديبة الأولى التي غاصت في نتاج البعيني، وكتبت عنه محلّلة وناشرة لأعماله وللذين كتبوا عنه في مناسبات ودراسات.
وفي الدراسة الموجزة لشعر شربل بعيني مهّدت الأديبة التي تملك فكراً عميقاً وقلماً شفّافاً لكتابها بوصف الشاعر بعيني: عرفناه هزاراً غريداً، نفحة عربية متوقّدة جريئة..".
من كتاب مي أختار ما يلي:
"طريقة شربل بعيني الجديدة في الشعر العامي استوقفتني، قرأتها مرات ومرات، لما فيها من سلاسة وعذوبة وعمق وجرأة. وجدتها ينبوعاً متدفقاً، لا ينضب، من العطاء الإنساني المثمر، شاملةً جامعة، ترفد مختلف الفنون بديمومة من الأدب والشعر والعلـم والفلسفة. ومما رفع من مقام زجليّاته، رحابة صدرها بالخير والمحبّة، وعدم تطرّفها أو انحيازها لجهة معيّنة. فمهما اختلفت القضايا التي طرحها وسيطرحها الشاعر، تبقى في جوهرها الحقيقي تمثّل قضية واحدة، ألا وهي.. الإنسان".
أخيراً، أهدى طلاّب جامعة مكارثر في غربي سيدني، الشاعر شربل بعيني، بعض الدراسات الجامعيّة التي أعدوها حول أدبه، فما كان منه إلاّ أن أعادها لهم، عام 1996، منشورة في كتاب اسمه شربل بعيني في جامعة مكارثر. والجامعيون الذين ساهموا بتأليف الكتاب هم السيدات والسادة: أنطوانيت عوّاد، ميرنا الشعّار، حنان فرج، نهى السيّد، رولا موسى، ميشال شرف، وسناء زريقة.
من الكتاب أختار هذه العبارات من دراسة الجامعيّة حنان فرج:
"يجدر بنا ان نشكر الشاعر الاديب شربل بعيني على مؤلفاته القيمة، التي ساهمت، وما تزال، في نشر الكلمة العربية والشعر العربي في هذه البلاد البعيدة.. كما انه، أي شربل، يغني التراث العربي، ليس في استراليا وحسب، بل وفي كل البلاد العربية والمهجرية. بإيجاز، نستطيع القول: إنه احد اهم اعلام الادب المهجري، او كما كتب عنه الاديب السوري المتخصّص في ادب المهجر الاستاذ نعمان حرب: "هو شاعر العصر في المغتربات".
ثلاثة عشر كتاباً، والحبل على الجرّار، كتبت عن أدب شربل بعيني.. تعتبر، بحق، أكبر شهادة تاريخيّة لعظمة أدبه، وأرفع وسام يعلّق على صدره.. فأنّى للتاريخ وللغربة أن يغيّباه، وقد تجنّدت أقلام كثيرة لتكريمه، وللإعتراف بعطائه المشرق.
**