رسائل هنري زغيب، نسيب نمر وجورج شدياق

كثيرون هم الأدباء والشعراء الذين كتبوا عن شربل بعيني وكاتبوه. فمنهم من التقيته شخصيّاً في منزله، ومنهم من التقيتهم في أرشيفه. ومن الذكريات المحبّبة إلى قلبي، تلك الجلسة التي استمتعت بها مع الشاعر اللبناني المعروف هنري زغيب، صاحب المؤلفات التي لا حصر لها، وكان شربل قد أولـم على شرفه، ودعانا للتعرف إليه.
هنري زغيب يسحركم بكلامه، بمعلوماته، وبحبّه المتعملق للبنان. لبنان حلمه، حرفه، عودته من منفاه الأميركي، والمشاركة في إعادة بنائه. كان يتكلّم وكنّا ننصت إليه بإصغاء قاتل.. وكأن حمامات الروح القدس ترفرف فوق رؤوسنا 
في سيدني، أهدى كتابه سمفونيا السقوط والغفران لشربل، ولـم يكتفِ بالكتاب بل خطّ بأنامله الشعرية هذا الإهداء الرائع:
"شربل بعيني..
يا أخي الشاعر.. إليك..
إن وطناً نبنيه بالشعر من منآي الأميركي إلى منآك الأسترالي، هو لبنان الذي يبقى، بعدما رملُ الشطّ يبتلع الزبد.
وحده الشعر يعصمنا ويعصم لبنان.
مع محبّتي ودعائي".
سيدني في 6/12/1993
ولأن هنري زغيب، كباقي الشعراء العظماء، مجبول بالوفاء، أرسل لأخيه شربل، حال وصوله إلى منفاه الأميركي، بطاقة معايدة، جاء فيها:
"يا خيّي شربل،
بعدني عـم بقراك.
أللـه يخلّيلك هَالغَزَارَه الشعريّه،
وهَالغِزَّارَه الشّاعره.
وكل ميلاد والشعر فرحك الدّايـم.
وكل سنه وإنت شاعر أكثر..
مع محبّتي".
ميلاد 1993
كما أنّه لـم ينسه في منفاه الأميركي، بل راح يذكره في لقاءاته الكثيرة، وهذا ما ذكرته الدكتورة سمر العطّار في "البوست كارد" الذي أرسلته من الولايات المتحدّة الأميركيّة:
"عزيزي شربل..
اجتمعت في فيرمونت، حيث عقد مؤتمر العربية في التسعينيّات، بالشاعر اللبناني هنري زغيب، وهو يعرفك، ويعرف أخبار الجالية الأدبية في أستراليا. وقال لي إنه كان ينشر بالنهار، ولكنني لـم أتذكّر اسمه.. وهو لطيف جداً، وأصبحنا أصدقاء في فترة المؤتمر القصيرة".
وبما أن الدكتورة العطّار قد تكلّمت عن اللطف الأدبي عند الشاعر اللبناني الكبير هنري زغيب، أحب أن أخبركم أن شربل قال لي:
ـ إن ألطف إنسان التقاه في بغداد كان الناقد اللبناني المرحوم نسيب حنّا نمر.
ولكي تتعرّفوا عليه أكثر، سأنقل بعض ما جاء في مقال كتبه شربل عن نسيب، إثر عودته من المربد، في جريدة النهار، العدد 581:
"خلع حذاءه وتربّع على مقعد الباص الملاصق لمقعدي. شذرته، فانتبه لذلك وسألني:
ـ من أين أنت؟
* من أستراليا..
ـ لي صديق عزيز جداً سافر إلى أستراليا..
ـ ما اسمه؟
* لا أخالك تعرفه..
ـ ولـو..
* كامل المر..
ـ لقد كنت أتغدّى معه قبل سفري.. بربّك من أنت؟
* نسيب نمر".
ونسيبنا هذا، لـم تصدر موسوعة علميّة في العالـم إلاّ وأتت على ذكره. ومع ذلك، نجد أن اللطافة والتواضع والأخلاق ترافق كل حرف كتبه، أو كل عمل قام به. وها هو في إحدى رسائله لشربل يطلعنا على بعض نشاطاته، وللتوثيق فقط، أذكر أن الرسالة بدون تاريخ:
"علمت منك إنك تريد إصدار كتاب بعنوان مربديّون، فرأيت أن معلوماتكم المنشورة عنّا غير كافية، وإن هي صادقة، فأحببت أن أزيدها بمعلومات أخرى، وبصورة طبق الأصل من الموسوعة العالميّة الأخيرة، التي نشرت شيئاً عنّا، ولا حاجة لذكر الموسوعات الأخرى ما قبلها، فهذه تكفي على ما أظن، وهي منحت كل من كتبت عنه صفحة أو أقل مع صورة في صفحة ثانية.. إلى المعلومات الرئيسية الآتية: عضو لأكثر من مرة في مجلس نقابتي الصحافة والمحررين في لبنان. عضو في إتحاد الكتّاب العرب منذ تأسيسه قبل 20 سنة. من مؤسسي المجلس الثقافي في بلاد جبيل ـ لبنان. من مؤسسي لجنة الدفاع عن المستأجرين في لبنان. عضو لجنة الدفاع عن السلم اللبنانية ، من 1962 إلى 1965، وعضو اللجنة المركزيّة (1954 ـ 1955)، وعضو مرشح لها (1963 ـ 1965) في الحزب الشيوعي في لبنان وسورية. إشترك في مؤتمرات عالمية للسلم ونزع السلاح في موسكو وهلسنكي وبغداد".
وتطول لائحة نشاطات نسيب نمر المشرّفة، ولكنني سأكتفي بالقليل منها، لأصل إلى هدفي المنشود، ألا وهو هذه العبارات:
"منح سليمان أبو زيد وسام الأرز الوطني اللبناني، فأقمنا له احتفالاً تكريمياً في 16 نيسان 1988، وفي كلمتي ذكرت أن قصيدته وقصائد قليلة من لبنان وبعض البلدان العربيّة والمهجر أنقذت المربد الشعري الثامن في بغداد، وكنت أعني قصيدتك أنت عندما ذكرت المهجر.
أخبرك أن إحدى الموسوعات العالميّة التي شاءت أن تكتب شيئاً عني، سألت عمّا إذا كنت قد حزت أوسمة ما. فأجبتها: نعم، دخولي السجن في لبنان وسورية مراراً دفاعاً عن الشعب والوطن. ولا أدري هل ذكرت الجواب أم لا، لأنني لـم أتسلّم النسخة بعد، وربما لن أستلمها، وربما لـم تكتب شيئاً، فاللـه أعلم، كما تقول العرب، إلى جانب الحمد للـه والبسملة".
ومن كلمته التي ألقاها في حفل تكريم الشاعر سليمان أبو زيد، أنشر ما يلي:
"وأخيراً، كنا معاً في مهرجان المربد الثامن في بغداد، فكانت قصيدته بين قصائد نادرة، لؤلؤة بين لآلىء، وجوهرة بين جواهر، استطاعت جميعاً، على قلّتها، الإستيلاء على الأمد وبلوغ الغرض، حتى لقّب هناك بفتى المربد الأغرّ، وقد وقف ووقف آخرون، من لبنان وبعض البلدان العربيّة والمهجر (1)، يثبت ويثبتون أن الشعر العربي شعر الشباب، وشعر الأمل الكبير والرجاء".
وفي الحاشية رقم واحد، قال فقيدنا الكبير نسيب حنّا نمر: "المقصود قصيدة الشاعر شربل بعيني في المربد الثامن في بغداد".
ومن لبنان، أنقلكم إلى فنزويلا، إلى رسائل القبس العاشر من قبسات الأديب نعمان حرب المهجريّة، عنيت بذلك ابن حلب البار الشاعر المهجري الكبير جورج يوسف شدياق، الفائز بجائزة جبران العالميّة لعام 1993.
رسائل الشدياق إلى شربل رائعة، ومفعمة بالأدب وبالفلسفة. ولكي تدركوا صحّة ما أقول، أطلعكم على رسالة مؤرخة في السابع من آذار 1989، يشرح فيها لشربل فلسفة البحث عن اللـه:
"أخي الشاعر المبدع الأعز شربل بعيني دمت بحفظ اللـه ورعايته.
تحيّة وإكراماً..
تسلّمت منذ أسابيع خلت كتابكم القيّم شربل بعيني ملاّح يبحث عن اللـه دراسة الأستاذ محمد زهير الباشا، فتفيّأت دوحته خلال سويعات عذاب.
أبحر شراعي الضائع في بحركم، باحثاً معكم عن الشاطىء الذي ما زلتـم تبحثون عنه في كلّ حدب وصوب.
لست أدري هل تصل؟!.. أم نصل معاً إلى الملأ الأعلى حيث شفافية الروح، وصفاء النفس، والقدرة الساميّة المترفّعة عن الأدران الأرضيّة.
السرّ الإلهي، يا أخي شربل، هو محور البحث عن اللـه. ولكن هل لنا نحن الشعراء أن ندرك تلك الخفايا وراء عالـم الغيب.. وأن نسمع ذلك الصوت الهاتف من أعماق الكون ؟!.. فالعذاب والقهر والعبودية والمادة ليست سوى جدران ضبابية تحجب عن أنظارنا اللـه.. وحب الزعامة والجشع والطمع والإضطهاد ليست غير رياح هوجاء تقذف بشراعنا إلى اليمّ المظلـم، وتمنع هذا الملاّح الباحث عن اللـه من متابعة الدرب نحو الشفافية والضياء والنور.
إذن لنتابع الإبحار بحثاً عن اللـه ـ والأمر يومئذ لمشيئته ـ والمعجزة الكبرى هي السير نحو الهدف، والإبحار نحو الأمل.
الغربة يا صديقي شربل هي مدرسة الشاعر المهجري، وما دمنا نعيش في المهجر، سنظل نبحث كل يوم عن اللـه بين ضباب الفكر، وخلف جدران العقل.
أشدّ على يدكم مباركاً، وضمّة حبّ وتقدير، وإلى مزيد من العطاء الفكري والأدبي".
شربل بعيني لـم يلتقِ أبداً بجورج شدياق، ومع ذلك نشعر من خلال رسائلهما بأن معرفتهما أعتق من خمر الدوالي، وأنقى من دموع العذارى. وها هو برسالته المؤرخة في السابع من شباط 1996، يستقبل صدور مجلّة ليلى كما لـم يستقبلها أديب مهجري من قبل:
"أطلّت عليّ منذ أسابيع خلت ليلى، حاملة بين ثناياها قواوير عطور أدبيّة وثقافيّة، اختصرت ألف ربيع ندي الشذا من بلادي.
وكلّما قلّبت صفحة جديدة فاح دوني عطر أرقّ وأندى. فالحروف عندما نزرعها فوق القرطاس عليها أن تتحرّر رغم أنف الزمن.
ولدت ليلى المجلّة يوم وجدت "ليلى" المرأة في قلبكم، وكما يقال وراء كل رجل كبير إمرأة عظيمة، والحب يا أخي شربل يأتي بألف معجزة ومعجزة. وأول معجزة هي ولادة ليلى خلف الشاطىء الثاني، بعيداً عن أرض الآباء والأجداد، حيث التعامل مع لغة الضاد هو أمر طبيعي.
فلننتظر إذن معجزة ثانية وثالثة، تطلّ علينا بين سانحة وأخرى من أستراليا، موطن العطاء الخيّر الباذخ، وموطىء الخطى الثابتة السائرة أبداً نحو مستقبل أفضل، وغد واعد بمواسم خير وعطاء.
هل استعرتـم عيون "زرقاء اليمامة"؟.. أم أن عيون ليلى كانت كافيّة غداة أنبأتكم بهذا المولود الميمون ليلى، والتي نتمنى لها كل ازدهار وتقدّم بين أحضانكم.
السعي المضطرد لا تخبو له جذوة في قلبكم، والهمّة القعساء هي أول حجرة نرجم بها أول من ينظر إلى المجلّة بعين الحسد والغيرة. فإلى الأمام يا أخي شربل، ونحن نعد اللـه وليلى، شعراء وأدباء المهجر معكم للأخذ بيد كل عمل قيّم، وجهد مـثمر خلف البحر. الطريق متعب وشاق، والعثار لا يمكن حصرها، وأنتم أدرى بذلك، ولكن الهدف.. والهدف وحده يمكن أن يمهّد الطريق، وينتزع العثار واحدة تلو الأخرى نحو غدٍ مشرق، مفعم بالأمل والتفاؤل. "وإرم" تبقى قريبة دون كل مسافر يحدو به أمل، ويهدهد مساعيه هدف.
ليلى المرأة هي لك وحدك.. وليلى المجلة هي في قلوب الجميع. ونرجو لهذا التوأم حياة مديدة وازدهاراً مضطرداً إلى ما فيه خير الضاد في هذا المهجر".
هناك حكاية استوقفتني في إحدى رسائل الشدياق لشربل، أحببت أن أطلعكم عليها، ألا وهي محاولة مجيئه إلى سيدني لاستلام جائزة جبران، فلنقرأ ما كتب في 29/10/1993:
"وبعد يومين.. تلكأت قليلاً، وألقيت بقلمي ناحية، وأسرعت إلى مكتب جوازات السفر علّني أستطيع الحصول على جواز سفر جديد أستطيع بموجبه السفر إلى سيدني، وبعد جهد وعناء كبيرين، حصلت على وعد من رئيس المكتب بمنحي جواز سفر خلال الأيّام القليلة القادمة.
وعدت إلى صومعتي، وبين جوانحي تتراقص آمال العالـم أجمع، وعندما أمسكت بقلمي ثانية، أحسست بدموعي تجري مع مداده، لتخطّ فوق القرطاس أرقّ الكلمات وأنداها، وكنت أنسلّ بين سانحة وأخرى من محراب القصيدة إلى سيدني، وأراني واقفاً بينكم معانقاً ومصافحاً إخوتي ورفاق دربي، شاكراً لهم حسن الظنّ.
وتولّت أيام، وعدت إلى رئيس مكتب الجوازات في فينزويلاّ طالباً جوازي الجديد.. ويبادرني بكلمات اعتذار عن عدم إمكانه الحصول على الجواز، وعليّ الإنتظار أكثر من شهر لإعطائي هذا الجواز الجديد.
وعدت أدراجي، والشجون تعتصر فؤادي ـ قبّح اللـه المسافات ـ قالها قلبي، وقالتها كل جوارحي. إذن لا بد للقصيدة أن ترحل بمفردها، لقد وأدوا بلحظة واحدة آمال عمر طويل".
ووصلت القصيدة إلى سيدني بمفردها، لتقع بين يديّ الزميل أنطونيوس بو رزق، الذي ألقاها نيابة عن الشاعر جورج الشدياق، بعد أن تسلّم جائزته.
هنري زغيب، نسيب حنا نمر وجورج يوسف شدياق، عمالقة ثلاثة التقيتهم، وقرأتهم وأحببتهم، فأدركت للحال سرّ محبّتهم لشربل بعيني، وسرّ محبّته لهم. رحم اللـه نسيباً، وأطال بعمر هنري وجورج وشربل، كي تبقى أقلامهم شموساً منيرة في دياجير شرقنا العربي الغارق بالضلال
**