جائزة تقدير الكلمة.. لقمر الكلمة

عام 1986، وفي مدينة مالبورن، منح الأديب المهجري المعروف سامي مظلوم الشاعر شربل بعيني "جائزة تقدير الكلمة"، كيف لا، وهو الذي كتب العديد من المقالات الأدبيّة حول أدب شربل، وشبهّه بـ "قمر الكلمة".
وقبل أن أبدأ بنشر أخبار الجائزة، كما وردت في الصحف المهجرية، أو بنشر بعض ما كتبه الأديب المهجري سامي مظلوم عن شربل بعيني.. أحب أن ألقي بعض الأضواء على سامي، هذا المغترب اللبناني الديناميكي الذي هاجر إلى مدينة مالبورن منذ زمن بعيد، ولـم ينس عاداته، تراثه، لغته، وآدابه. بل راح يعمل المستحيل من أجل نشرها، وتعميمها، والتعملق بها.
هو اليوم رئيس المهرجان اللبناني في مقاطعة فيكتوريا، وأحد مسؤولي إذاعة "صوت الجالية" ـ مالبورن. إنه، وبكلمة مختصرة، لولب الحركة الإعلاميّة والثقافيّة في مدينة مالبورن.
وفي الجزء الثاني من سلسلة شربل بعيني بأقلامهم الصادر عام 1987، وصف الأديب كلارك بعيني صديقه سامي مظلوم بالأديب المهجري المرموق، وأن قلمه: "لا يرحم كل من يريد التلاعب بوحدة أبناء شعبه. له ثقل أدبي هائل في المهجر الأسترالي، وعلاقته متينة مع العديد من أدباء العربية في الوطن والمهجر.
يقال: إن من النادر أن يعشق سامي المظلوم أدباً أو شعراً لأحد، إلاّ إذا تعمّدا بالنار".
من هذا المنطلق، بدأ إعجابه بأدب شربل بعيني. وكأنه وَجَد في ولاية أسترالية أخرى نصفه الثاني. سامي يعمل في مالبورن وشربل يعمل في سيدني. ومن يحب أن يفني عمره بالعطاء اللا محدود، لا يفكر بأسماء الذين أعطوا، بل بما أعطوا لمجتمعهم الإغترابي.
سامي مظلوم لـم يمنح جائزة "تقدير الكلمة" سوى مرّة واحدة يتيمة، كانت من نصيب شربل بعيني. وإليكم القصّة كما شرحها مراسل صوت المغترب في مالبورن الأستاذ الصديق مطانيوس مخّول، بتاريخ 4/9/1986:
"بمناسبة وجود الاستاذ شربل بعيني في مالبورن، أقام الاستاذ سامي مظلوم حفلة لقاء وتعارف في قاعة "التوتو" المعروفة بمعبد الجالية اللبنانية في مالبورن، وكانت مفاجأة اللقاء تقديم هديّة رمزيّة تليق بالأدب وحامليه في القارّة الأسترالية.. ألا وهو الشاعر الكبير، وحامل سيف الحق في دنيا الاغتراب، الاستاذ شربل بعيني.
رحب صاحب الدعوة بالاستاذ بعيني قائلاً: ما هذه الهديّة الرمزية إلا عربون وفاء وتقدير للكلمة، وللعطاء الدائـم تجاه الوطن الذي يقدّم الذبيحة الإلهيّة على ضريحه يومياً. لقاؤنا بك سيخلّد في قلوبنا، وقلوب كل المخلصين.. متمنياً لك أن تبقى على هذا لمنهاج المنبر الحر، وأكبر سفير شعري ، وخليفة النبي جبران، الذي ولد من جديد في القارّة الأستراليّة.
ورد شاعر الغربة الطويلة بكلمة شاعريّة رقيقة، شكر بها آل مظلوم على هذا اللقاء الأخوي "وعلى التقدير الذي غمرتموني به، حيث سيكون محفوراً بقلبي، وقلوب عائلتي وأبناء بلدتي مجدليا. إن تقديركم لي سيزيدني إيماناً وعطاء لنتوحد جميعاً من أجل وطن دمّرته الحرب، ومزّقته الأيادي الشريرة، التي لا تعرف القيم الأخلاقية في عصر الفضاء والذرّة، ونحن أول من أعطى النور، وأعطى الحرف والكلمة للعالـم.. أصبحنا اليوم نطلب مساعدة من أجل خلاصنا. ولكن، بوجود الأقلام الحرة والمخلصين من أبناء الوطن الواحد، لن يكون هناك، بعد اليوم، مكان لتجّار الدماء، سوى حرقهم، ليبقى لبنان صافياً وخالياً من المتاجرين بدماء الأبرياء".
إذن، فقصّة الجائزة لـم تكن مدروسة، أو مخطّط لها من قبل، بل أوجدتها حميّة سامي مظلوم تجاه شعراء بلاده، وخاصة شربل بعيني، هذا الذي كتب عنه سامي أجمل المقالات. ونظراً لكثرتها سأكتفي ببعضها كي لا أطيل الشرح، وأملّل القارىء.
عام 1986، نشر سامي في صوت المغترب العدد 892، مقالاً بعنوان "للشاعر المرهف شربل بعيني"، جاء في نهايته:
"ولأن شعر الشاعر الأديب شربل بعيني ينمو ويتعافى في هذا الاتجاه التثقيفي الراقي، جئت في كلمتي هذه، كقارىء ومراقب لكتاباتك منذ حين، لأعبّر عن شعور وجداني نحو عينة طيبة، هي محطّة أدبيّة مهجريّة تبعث في روح جاليتنا صيحات الوعي لخلق جيل سيفتح عينيه على حقيقة، وفؤاده على حقّ جيل لا يحني لغير العلم رأساً، ولا يمد لغير المعرفة يداً. جيل يعرف أن بلاده كانت وستبقى المعلمة والهادية للإنسانية جمعاء.
بورك نتاجك.. وبوركت الشاعر والرجل المؤمن بالمعرفة والفضائل، المصارع في مغتربه سيدني أستراليا، والمساهم في صناعة تاريخ جالية عريقة، تساهم أيضاً بروح رسوليّة رياديّة في صناعة تاريخ أمّة مضيافة، فيها كل الفن، وكل العلـم، وكل الفلسفة. قيم هي المصباح الكبير الذي أضاء لنا طريق الحياة في غمرات الليل الطويل. إلى الأمام واسلم معافى لحقيقة وجودنا".
ومن تتبّعي الصحفي لتموّجات الجالية السياسية، في وقت من أصعب الأوقات وأعنفها، إذ أن الفرز الطائفي كان يمارس في لبنان، وأصوات مدافع التفرقة تطغى على كل صوت. وجدت أن أدب شربل بعيني كان أحد أهم أسباب وحدة الجالية اللبنانية في أستراليا. فكل ما كتب، وكل ما نشر، كان يدور حول وحدة شعبه ووطنه، ونبذ الطائفيّة البغيضة. ولهذا نال كل هذا المديح، وكل هذه الجوائز، وكل هذا التكريم، وكل هذا الإهتمام الأدبي على مساحة الكرة الأرضيّة. ولهذا فقط، منحه الأديب سامي مظلوم "جائزة تقدير الكلمة"، لأنه أدرك بحسّه الأدبي الرفيع أن شربل بعيني سيبقى ناصعاً بقلمه وأدبه وأشعاره كثلج صنّين.. إلى أن يموت الموت، وتشرق شمس بلاده.
ومن الخصال الأدبيّة الحميدة التي يتحلّى بها شربل، ويعترف بها كل من عرفه، هو أنه لـم يفرض نفسه مرّة واحدة على برنامج أدبي محضّر سلفاً. كما أنه لـم يطلب من أحد إطلاقاً، وأعني ما أقول، أن يلقي قصيدة في مناسبة ما، كما يفعل العديد من أدباء وشعراء الوطن والمهجر، دون أن يُطلب منه ذلك مسبقاً، وأتحدى كلّ من يقول العكس. فلقد كان معدّو الحفلات الفنيّة والندوات الأدبيّة يترجونه من أجل إلقاء كلمة أو قصيدة، ونادراً ما يقبل.. لا بل يجيّر الإلقاء إلى شاعر آخر بغية تشجيعه.. كما أنّه كان يرفض رفضّاً باتّاً المشاركة بتأبين ملك أو أمير أو رئيس أو زعيم.
شربل بعيني عرف كيف يحمي نفسه من مرض التطفّل الأدبي الممجوج الذي يفتك بالكثير من أدبائنا وشعرائنا. فكرامته الأدبيّة كانت وما ظالت مشرقةً كشمس "إدلب" التي لفحتني بحرارتها المقدّسة ساعة مجيئي إلى ورشة الحياة.. وبسبب هذه الكرامة الأدبيّة المشرّفة كُرّم شربل بعيني عشرات المرّات، وقد كان لي شرف المشاركة بتكريمه مرّتين: في يوبيله الفضّي، وفي إمارته الأدبيّة.
وها هو سامي المظلوم يعلن للملأ، عام 1987، بمقال نشره في جريدة صوت المغترب العدد 942، أن شربل سيكون من روّاد أدب الحياة، وهذا ما يثبت صحّة كلامي السابق:
"أعتقد أن الشاعر شربل بعيني قيمة إنسانية، وطاقة إجتماعيّة جيّدة في مغتربنا. يصارع بوقفة عز هذا الشرّ المتربّص بنا، الحاقد علينا وعلى المثل العليا التي نتمسّك بها حتّى الشهادة..
فبحق دماء كل شهداء الحقيقة، شهداء الحياة الجديدة، شهداء القضيّة المقدّسة.. ومع صباحات شهر الفداء الذي كرّس نفسه شرطاً لانتصار شعبنا على كل المتآمرين عليه من الداخل والخارج.. وبحق كل هذه القيـم، إنني أرى هذا الشاعر يعمل بإخلاص، ويتأهّب ليكون من روّاد أدب الحياة في مغتربنا، ومن يعش ير.
أقول هذا، لأنني قرأت الكثير لشربل بعيني، فوجدته يكتب من أجل هدف وطني، وليس من أجل الكتابة فقط".
لقد عشنا ورأينا يا سامي.. فنبؤتك "بقمر الكلمة" صحّت، ومنحك له "جائزة تقدير الكلمة" كان عملاً رائعاً ذا شفافيّة لـم يسبقك إليها أحد. فبوركت محبّتك، وصداقتك، واندفاعك من أجل نصرة الحق. فلقد أخبرني شربل أنك كنت من أوائل الذين هنّأوه بصكّ إمارة الأدب في عالـم الإنتشار اللبناني، وأنك قلت له:
ـ مبروك يا أمير.. مبروك يا قمر الكلمة..
وكيف لا تكون من الأوائل، وكنت ثاني مسؤول أغترابي كرّمه بجائزة بعد السفير جان ألفا؟..
أرشيف شربل بعيني متخم برسائل وصلته من صديقه سامي، ولكنني سأكتفي بنشر مقاطع من رسالة أرسلها بتاريخ 28/12/1995، وفيها يقول:
"الكلمة يا عزيزي شربل هي سبيلنا الوحيد إلى التعبير عمّا يجول به خاطرنا، وما يضيق به صدرنا. الكلمة التي عرفتها هي تعبير صادق حي لأفكارنا ومشاعرنا، نوصل بها نداءاتنا وآراءنا إلى كل من له آذان تسمع وتعمل وتناضل من أجل الحريّة والكرامة الإنسانيّة. ومع طلّة ليلى، يطل من جديد قمر الكلمة ليضيء دروب مغتربينا في أستراليا العظيمة..".
وبعد المقالات الأدبيّة، والرسائل الشخصيّة الحميمة، أترككم مع شاعرية سامي مظلوم، المتفجّرة كأدبه، القويّة كنبرات صوته، الناعمة كطلته الإغترابيّة، الحميمة كرسائله، والمنشورة في عدد التلغراف الصادر بتاريخ 13/12/1989:
الحب عهدو بينك وبيني
باقي عطر فوّاح بجنينه
يا شاعر الإبداع.. شو بكافيك
كبيره عليّي كتير هـ الدّينه؟
كل ما حملت معزوفتك رح قول:
يا ربّ خلّي شربل بعيني
من فمك لباب السماء يا سامي.. لأن شربل بعيني يستحق منّا كل المحبّة وكل التقدير.
**